أحاطت مجموعة من الأساطير بالنهوض الصيني، بعضها يبدو حقيقياً والبعض الآخر مبالغاً فيه. يحاول مؤلف الكتاب أن يوضح هذه الأساطير، والتحدي الذي تفرضه الصين على دول الجوار والولايات المتحدة في الحاضر والمستقبل، ويدعو القراء إلى إعادة التفكير في العولمة وترك مساحة سياسية أمام الصين والدول النامية لأجل التنمية الوطنية، لتحقيق التحول الديمقراطي والسلام العالمي.يشير الكاتب جيانيونغ يوي إلى أن الأسطورة الأولى هي أن العولمة أدت مباشرة إلى نهوض الصين، والثانية هي أن الصين دولة تنموية شرق آسيوية أخرى؛ والثالثة هي أن إصلاح السوق في الصين قد تم تنفيذه بطريقة تدريجية؛ ورابعاً كانت «طريقة الحكم الصينية» فعالة في ضمان التحول الاقتصادي والسياسي للبلاد.يجادل يوي بأن نموذج الصين هو أحد أشكال «الرأسمالية المحسوبة» التي أعاقت محاولات البلاد في الحداثة الاقتصادية والسياسية. ويرى أن استراتيجية الولايات المتحدة لدمج الصين في النظام الدولي هي هزيمة ذاتية على المدى الطويل؛ ليس لأن مثل هذا النهج أوجد «إمبراطورية مضطربة» قادرة على تحدي سيادة الولايات المتحدة، ولكن لأن «المعجزة» الصينية انعكست على النظام الليبرالي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
عولمة الديمقراطية الليبرالية
قبل نهاية الحرب الباردة بالتحديد، قدّم العالم السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما أطروحته الأكثر شهرة بعنوان «نهاية التاريخ» في العدد الصيفي لمجلة «ناشينال إنترست» عام 1989. وأعلن بثقة تامة الانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية، وتوقع حتمية «عولمة الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل النهائي للحكومة البشرية». وقد تردد صدى حججه في سنوات ما بعد الحرب الباردة عندما انضم عدد من البلدان إلى صفوف الديمقراطيات التي عززت تدفق ديمقراطية الموجة الثالثة التي بدأت في عام 1974. لكن التاريخ لم ينته، بل تحرك منذ ذلك الحين في اتجاهات كثيرة مع أيديولوجيات متنافسة صمدت في أجزاء كثيرة من العالم، سواء كانت أصولية إسلامية، أو إعادة تنشيط النزعات الشمولية في دول مثل روسيا والصين، أو «صراع الحضارات» غير الأيديولوجي. لقد عاد التاريخ أيضاً في الشكل التقليدي للمنافسة الجيوسياسية المتجددة بين القوى العظمى. ومن بين هذه الاختلافات، فإن صعود الصين وما يترتب عليه من آثار على كل من السياسة الداخلية والسياسة الدولية للولايات المتحدة قد شكل تحدياً لحتمية فوكوياما التاريخية.كالماركسيين، يرى فوكوياما أن القوة المادية مثل الأسواق هي المحرك وراء «التطور الدارويني» للبنية التحتية السياسية، وإن كان في اتجاه مختلف تماماً. وقد لاحظ بشكل يثير الانزعاج تشدد النظام الصيني بما يكفي لجعل نظريته باطلة. ومع ذلك فهو يميل إلى الاعتقاد بأن الأحداث التي تعرضت لنكسات مؤقتة (عودة التاريخ) لن تغير من العملية التاريخية المقدرة على المدى الطويل. وبعد أن استشعر فوكوياما الضغوط المتزايدة من القاعدة إلى القمة لأجل التحرير السياسي داخل المجتمع الصيني، سافر إلى بكين في 23 إبريل 2015 لإجراء مقابلة مع وانغ تشي شان إحدى أقوى الشخصيات في حملة مكافحة الكسب غير المشروع في الصين وعضو اللجنة الدائمة الجديدة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني والتي تشكلت في أواخر عام 2012 بعد اختتام المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب على أمل الحصول على جواب شافٍ له. وكان وانغ من التكنوقراط البارزين ممن يتمتع بالخبرة الإدارية الغنية، والمهارة في معالجة القضايا الشائكة. كان مولعاً بكتب التاريخ وكان يقرأ بشكل واسع. وكانت آخر قراءة له هي «النظام القديم والثورة» التي كتبها ألكسيس دي توكفيل عام 1856. وقد أكسبته أوراق الاعتماد هذه الكثير من الإطراء بين المفكرين الصينيين، والذين اعتبروه أملاً في دفع الصين نحو الاتجاه الصحيح للديمقراطية الليبرالية.
[/p]
[p]تحديث الصين
أصبح حواره المقبل مع فوكوياما مؤشر حركة للسياسة الصينية وقد أعطى فوكوياما والمفكرين الصينيين الإجابة الأكثر وضوحاً. بدأ وانغ بالإقرار ب «الموروث العظيم» ل «الأمة، وحكم القانون، والمساءلة» المتأصلة في الحضارة الصينية، والتي «يجب أن تلعب دوراً في تحديث الصين». واعترف صراحةً بأن اجتثاث الفساد من قبل الحزب نفسه كان صعباً للغاية. ولكن رداً على اقتراح فوكوياما بإقامة حكم القانون وسلطة قضائية مستقلة للقضاء على الفساد على المستوى المؤسسي، أجاب وانغ بلهجةٍ مؤكدة بأنه لن يتم التخلي عن قيادة الحزب الواحد وأن النظام القضائي يجب أن يخضع لقيادة الحزب الشيوعي. إن رفض الحزب الشيوعي الصيني الصارخ للديمقراطية والتدابير القوية التي اتخذها شي جين بينج، الزعيم الأسمى القوي، لإعادة توطيد الحكم في الصين على طريقة حكم بوتين في روسيا، كان بمثابة حجة عكسية قوية لأطروحة فوكوياما «نهاية التاريخ». وبدلاً من ذلك، قدّمت الصين ما بعد عهد ماو للعالم الخارجي نموذجاً بديلاً ل «الرأسمالية الماركسية» وهي طريقة صينية مميزة لخلق «ثروة بدون حرية». وهذا النوع من اللينينية السوقية خلق حتى الآن معجزة اقتصادية مذهلة، مما أدى إلى دعم النظام دعماً هائلاً. وعلى عكس الدول الأخرى التي ظل المجتمع المدني فيها يكبر جنباً إلى جنب مع الاقتصاد، أحكمت دولة الحزب الصيني قبضتها على المجتمع طوال الوقت وأظهرت توجهات شمولية مستمرة طوال سنوات الإصلاح. وكما أشار ووغوغوانغ، فإن المفارقة المحيرة هي أن النظام الشيوعي الصيني قاوم بكل بساطة أي تغيير سياسي خوفاً من فقدان السلطة خلال أزمة اقتصادية ما. ولم تشعر بالحاجة إلى أي إصلاح سياسي بهدف زيادة شرعيتها خلال فترة الإنعاش الاقتصادي. على أية حال، كما يقول المؤرخون في كثير من الأحيان، لا شيء مستحيل. وفي المستقبل، ربما يحالف فوكوياما الحظ بمشاهدة تغيير جذري مفاجئ في الصين، على غرار ما حدث في رومانيا الشيوعية 1989. وهذا النوع من التغيير المفاجئ قد لا يحدث بالضرورة بسبب قوة منطقه الحتمي الليبرالي المادي، بل بسبب الحوادث مثل أزمة اقتصادية كبرى، وهي ظاهرة تنطوي على احتمال كبير نتيجة للاندماج العميق للبلاد في الاقتصاد العالمي. لكن الصين قد تتغير في اتجاهات أخرى.
نكسات مؤقتة
وعلاوةً على ذلك، فيما يتعلق بالصين، فإن النكسات المؤقتة التي وصفها فوكوياما على نطاقٍ واسع بأنها «مؤقتة» قد لا تكون مؤقتة من الناحية التاريخية العالمية. جدير بالذكر أنه حتى انتصار الديمقراطية الليبرالية الذي أعلنه فوكوياما في أواخر ثمانينات القرن العشرين أمر غير محتوم. والأيديولوجيات غالباً ما تعمي الناس عن رؤية الحقائق التاريخية. إن التفوق الأخلاقي الذي تتمتع به الليبرالية الديمقراطية اليوم لم يضمن أبداً انتصارها على أشكال الحكم «الشريرة» الأخرى باعتبار ذلك حتمية تاريخية. لا يمكن تصور إقامة نظام ديمقراطي ليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية من دون الولايات المتحدة الأمريكية. ولو لم تكن الولايات المتحدة موجودة، لما كان لدى الديمقراطيات الصناعية في أوروبا الغربية فرصة كافية للتغلب على الرايخ الألماني في الحربين العالميتين. ولولا التزام الولايات المتحدة بالأمن والإنعاش الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية، لربما انغمست أوروبا الغربية الرأسمالية في ثورة مؤيدة للشيوعية. وفي حال غياب ديمقراطية صناعية قوية في الولايات المتحدة لربما سادت أشكال أخرى من الحكم. لنأخذ الحرب العالمية الأولى كمثال: إذا ما فشلت الديمقراطيات، وهي نتيجة على الأرجح بحال عدم تدخل الولايات المتحدة، لتمكن الرايخ الألماني بشكلٍ أفضل من إبراز قواه الاقتصادية والأيديولوجية فيما وراء «أوروبا الوسطى»، كالاتحاد الجمركي الأوروبي المركزي الألماني. فالرأسمالية الجديدة في ألمانيا، وهي رأسمالية استبدادية منظمة تتميز بالتصنيع الذي تقوده الدولة وببناء دولة الرفاه الاجتماعي. كان من الممكن أن تصبح بما لا يدع مجالاً للشك أكثر نماذج التنمية جاذبية للبلدان المتأخرة في التنمية خلال العقود أو حتى القرون التي تلت ذلك.وقد قدمت ألمانيا الإمبراطورية في واقع الأمر شكلاً بديلاً من أشكال الحكم ونموذجاً فريداً للتنمية لا يُعتبر أقل شأناً من أنواع الأنظمة والنماذج الاقتصادية المتنافسة في ذلك الوقت. فالطريقة الخاصة التي تطورت بها ألمانيا الإمبراطورية صناعياً بسرعة في أواخر القرن التاسع عشر بدت «عالمية» بالنسبة لكثير من البلدان المتأخرة في التنمية التي كانت ضعيفة مؤسساتياً، ومن ثم تعين عليها الاعتماد على دولة شمولية قوية لتعزيز النمو على أسس نظرية جيرشنكرون والقض`اء على التخلف الاقتصادي.
لحظات حاسمة
ومنذ ذلك الحين نجح «النموذج الآسيوي» للرأسمالية الاستبدادية في محاكاة الوضع، وإن كان بدرجات متفاوتة، من قبل البلدان الصناعية المتأخرة في شرق آسيا، أي اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان قبل وبعد الحربين العالميتين. إن عدم اعتماد هذا النموذج كما يقول ليفن، لم يكن بسبب «كونه أقل حداثة وكفاءة» بل بسبب «الإطاحة به بهزيمة عسكرية» في الحرب العالمية الأولى. ومن منظور تاريخي أوسع، كان التصنيع بدون ديمقراطية ليبرالية هو القاعدة. وكانت الولايات المتحدة هي الاستثناء الوحيد بين الدول المتقدمة التي تمكنت من «تلبية المتطلبات الملحة للتنمية الاقتصادية والعملية الديمقراطية في آنٍ واحد». بالنسبة لمعظم البلدان المتقدمة حالياً، فإن التصنيع الذي يمثل «عملية وحشية واستغلالية» في مرحلة الإقلاع، كان يهدف إلى قمع «مطالبات إعادة التوزيع بشأن الثروة» لأجل تمكين تكوين رأس المال والاستثمار المطلوبين من خلال «أنظمة أقل ديمقراطية أو استبدادية» لتعزيز التحولات الاقتصادية والاجتماعية. وهذا هو السبب بالتحديد في أن نهج «بارك تشونغ هي» المتشدد لتسخير التصنيع السريع في سبعينات القرن الماضي قد لاقى ترحيباً من العالم والسياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون، الذي أكّد في معرض تناوله لعملية التحديث المضطربة ل «المجتمعات المتغيرة»، على ضرورة الحفاظ على النظام في اللحظة الحاسمة من التغيير الاقتصادي العميق. ولكن حتى في هذا الصدد، فإن انتقال كلا النظامين الشرق آسيويين ( كوريا الجنوبية وتايوان) إلى الديمقراطية في نهاية المطاف منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين وما بعدها لم يكن مدفوعاً ب «عملية التطور الدارويني» بقدر ما كان مدفوعاً بالضغوط السياسية من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي وجد كلا النظامين صعوبة في مقاومتها نظراً لنقاط الضعف الحادة في اقتصاداتهما الأصغر حجماً والمعتمدة على التصدير. ولم يتحقق التفوق الهائل للديمقراطية الليبرالية إلا بعد الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفييتي في عام 1991. وتجدر الإشارة إلى أنه كان من أخطاء جورباتشوف الإصلاحية الفادحة وسوء التقدير الخطير والذي تسبب في انهيار الإمبراطورية السوفييتية، وهو حدث هام لم يكن بالإمكان تجنبه بأي حالٍ من الأحوال.ولذلك، ليس هناك شك في أن تلك «الأحداث» العرضية الانتصارات العسكرية للديمقراطيات الليبرالية التي تقودها أمريكا في الحربين العالميتين، وإلى حد كبير الزوال العرضي للشيوعية السوفييتية في الحرب الباردة هي التي جعلت العملية التاريخية المحفوفة بالمخاطر تبدو حتمية. إذا كانت الحرب الباردة العالمية قد قامت بتسييس خطاب التنمية، مما جعلها جزءاً من العلاقات الدولية، فإن انتصار الديمقراطية الليبرالية في أواخر الثمانينات، وبالاقتران مع إخفاق «التحدي الجنوبي»، وهو جهد تبذله البلدان الأقل نمواً لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد في محاولة لإصلاح النظام الاقتصادي الليبرالي الغربي المهيمن منذ السبعينات وحتى منتصف ثمانينات القرن العشرين، أضفى الطابع الشرعي بطبيعة الحال على النموذج الليبرالي الجديد بوصفه النموذج السائد والوحيد «الصحيح» للتنمية.
العولمة والسياسة
من خلال تغطية فترة الإصلاح بأكملها من نهاية الثورة الثقافية في عام 1976 إلى يومنا هذا، يدعو المؤلف القراء في عمله (الصادر عن دار «بالغريف ماكميليان» للنشر باللغة الإنجليزية ضمن 386 صفحة) إلى إعادة التفكير في العولمة وترك مساحة أكبر للسياسة أمام الصين والدول النامية لمتابعة التنمية الوطنية من خلال التكامل الداخلي، الأمر الذي يجده يفضي أكثر إلى التحول الديمقراطي والسلام العالمي.
<br/>