ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
[/p]
[p]بات التوثيق الإعلامي، وعملية التصوير تحديداً، مرتبطة بشكلٍ وثيق بالحياة اليومية للسوريين بعد عام 2011، حيث امتهنها ما عدا المدنيين، عناصر الأمن، والمجموعات المسلحة، والإرهابيين، حيث استخدموا كاميراتهم لرصد أعمالهم الوحشية وجعلها وثائق حية مع قيامهم بأكثر أشكال العنف تطرفاً ووحشية من أجل التصوير. في سوريا تحوّلت الصورة المرئية إلى أداة لارتكاب العنف، ووسيلة أساسية لمقاومتها في الوقت ذاته.
من مقاطع الفيديو الدعائية لداعش، إلى النشاط الرقمي والمسلسلات التلفزيونية الجماهيرية المدعومة من النظام، تأثر الصراع السوري بشكل كبير بالإنتاج الإعلامي، وفي الوقت نفسه ولّد ثقافة بصرية متميّزة.
ولكن ما هي الآثار الجمالية والسياسية والمادية للتواطؤ بين إنتاج هذا الكم الهائل من الوسائط البصرية التي يتم مشاركتها وإعادة التلاعب بها باستمرار على الإنترنت، وأداء الصراع على الأرض؟ تستخدم هذه الإثنوغرافيا (وصف أحوال البشر) الحالة السورية للتعبير بشكل أوسع عن الكيفية التي يعيد بها العصر الشبكي إعادة تشكيل الحرب المعاصرة وتأثيرها في تشريع العنف من خلال الصور. في تناقض صارخ مع التقاليد التكنولوجية التي تحتفي بالديمقراطية الرقمية والثقافات القائمة على المشاركة.
يكشف تحليل الكاتبة دوناتيلا ديلا راتا عن الجانب المظلم من الممارسات عبر الإنترنت، حيث تتشابك أنظمة التمثيل البصري والإنتاج الإعلامي بشكل كبير مع أساليب التدمير وأداء العنف.
في العمل الروتيني لفعل التصوير، وفعل إطلاق النار، برز إضفاء الطابع السلعي التجاري أو ما يسمى بالتسليع بمنطق الاستغلال الذي تجاوز حدود الصور لاستثمار الكائنات الاجتماعية التي أصبحت تعرّف بالصورة، وتحدد الصورة. تقول الكاتبة: «يبدو أن سوريا المعاصرة قد جسّدت تكهنات الفيلسوف والسينمائي الفرنسي غي ديبور في«المشهد»ليصبح علاقة اجتماعية بين الناس تتوسطها الصور«. في البيئة الشبكية نجد الوسم أو»هاشتاغ«، والرموز التعبيرية، وإعادة التغريدات، وصور السيلفي، والقصص، والحالات. يكون المشاركون وسطاء بشكلٍ مفرط، تواقون إلى تعميمها وإعادة نشرها ووضع علامات عليها وإبداء الإعجابات بها، حتى لو كان الموت والعنف هو المحتوى الذي سيتم تحويله إلى شكلٍ من أشكال العرض بالاشتراك والإنتاج مع الأقران.
يستكشف الكتاب فكرة تحول الحرب والحياة في عصر الإنترنت، من خلال استكشاف أكثر نزاعات العصر المعاصر التي استخدمت فيها وسائل التواصل الاجتماعي. ويضم في مضمونه: مقدمة، ثم ثمانية فصول هي:
1) صناعة الإعلام: صناعة الدولة وتنوير سوريا في زمن الليبرالية الجديدة.
2 ) استراتيجية ويسبر.
3) موت التنوير في دراما الزمن الحقيقي.
4) الشعوب ترفع أيديها.
5) الخوف والكراهية على الإنترنت: مفارقات النشاط الشبكي العربي.
6) محاربو الشاشات: التصوير والقتل في سوريا المعاصرة.
7) صانعو الصور في سوريا: مقاتلو داعش والنشطاء السلميين.
8) ملاحظات على نظرية العنف والمرئيات في عصر الشبكيات.تحول حاسم بدأ في سوريا الانتفاضة السلمية عام 2011، تحول فيما بعد إلى حرب وحشية بالوكالة تحت مسميات عدة ومنها الحرب ضد الإرهاب. وفي عام 2017 تم الإعلان رسمياً عن الانتهاء من جزء من هذه الحرب حيث تم إقصاء»داعش«من تدمر والرقة، و»تطهير«حلب من المتمردين. وأعلن بشار الأسد مع حلفائه الروس ذلك اليوم يوم النصر العظيم. تتساءل الكاتبة:»فهل ينبغي أن نسميه كذلك ويد
«شباب سوريون مفعمون بالحياة، أذكياء وموهوبون بشكلٍ لا يصدق إن لم يكونوا ميتين، مثل صديقي باسل الصفدي الذي كان مصدر إلهام لي في نشر هذا الكتاب، أو قابعين في السجون كالآلاف من الأشخاص المختفين يعيشون الآن في مراكز لإيواء اللاجئين في انتظار فرز أوراقهم لترسل إلى مكانٍ ما، يوماً ما عن طريق شخص لربما يعرف القليل من قصتهم أو لغتهم أو ثقافتهم. يعاني العديد من هؤلاء الشباب الاكتئاب كرد فعل إكراماً للحظة التغيير المجيدة تلك التي اغتنموها عام 2011 ثم خسروها ولا يمكن تعويضها، والبعض منهم أقدم على الانتحار، والبعض الآخر يبني حياة جديدة بكل صمود، فمنهم من يتعلم لغة جديدة، ومنهم من يمارس الفن وصناعة الأفلام أو يبدأ بأي عملٍ جديد».
بتقديم هذه اللقطات من الماضي القريب لسوريا كدلائل تقودنا إلى نقاط التحول الحاسمة خلال فترة ما بعد عام 2011، لتسليط الضوء على الانعكاسات المستقبلية وما توحي إليه هذه الانعكاسات، أود استحضار عبرة الفيلسوف غرامشي وهي: يجب أن يرتكز العمل الفكري على خطط تتطلب التزاماً سياسياً فعالاً، مع إدراك أن «الواجب الأخلاقي هو الشهادة بقول الحقيقة عن المعاناة الجماعية وتوفير مرجعٍ لترجمة هذا الإدراك إلى المشاركة الاجتماعية».
التوثيق الإعلامي
يتمحور مضمون هذا الكتاب حول الأحداث المتداخلة بشكلٍ مثير، والمتوازية مع بعضها البعض؛ التصوير والتعرض لإطلاق النار، التصوير والقتل، تصوير يودي بالحياة، والقتل لأجل التصوير. إن عبارة «التصوير والتعرض للقتل» تشير إلى التقاط صور ووقائع الحياة من خلال الكاميرات، في الوقت الذي يموت أحياء أمام عدستها تخليداً للذكريات ولتتبلور كشهادةٍ حية وتصبح وثيقة تاريخية في المستقبل. وفي الوقت نفسه، انبهار بالعنف في مسعى للوصول إلى الصورة المرئية المثالية لشرعنتها على أرض الواقع. استخدمت الكاتبة كلمة (shooting) بالإنجليزية ضمن العنوان «قتل ثورة» أو «تصوير ثورة»، متلاعبة باللفظ، إذ تستخدم هذه الكلمة في القتل كما تستخدم في التصوير.
تقول: «بعيداً عن التشتت والوقوع في شرك الالتباس والانبهار بالمظاهر من خلال الثورة ذات المعالم السوداء أو من خلال سينما القاتل. الاقتصادي الألماني الراحل أرنست يونغر لاحظ في أعقاب الحرب العالمية الأولى أن إنتاج المرئيات في سياق الحرب يتعلق بالعمل أكثر من مجرد سرد لتمثيل جمالي. يتجلى ذلك أكثر من أي وقت مضى في سوريا بعد عام 2011، حيث عملت الديناميات المتوازية كالتصوير والتعرض لإطلاق النار، التصوير والقتل، وصناعة الصور للحفاظ على الحياة وتدمير الحياة من أجل الصور، على غزو المجال المعتاد وتحولت إلى أشكال بسيطة من العمالة الرقمية على صعيد تكنولوجيا الاتصالات الشبكية. والأخيرة أضافت شريحة غير مسبوقة من التعقيدات على إنتاج المرئيات والعنف في سوريا كنوع من العمالة غير المادية المأجورة، وغير المأجورة، والمدفوعة بأجرٍ زهيد، والتطوعية، والتي شاركت في إنتاج وتجميع وتوزيع المادة التي اندمجت مع عدد كبير من المواضيع المادية كالمعارضة المسلحة والمعارضة السلمية، المؤيدين والمعارضين للنظام، والعديد من الجهات المحلية والإقليمية والدولية التي شاركت في القتال الدائر على أرض الواقع».
وتضيف: «إن ديناميكيات القوى المحركة للعنف والصورة هذه قد تشابكت واشتركت معاً بشكلٍ مثير لم يسبق له مثيل في التاريخ، وتآلفت في العمل بطريقةٍ روتينية على شبكات التواصل. كذلك ظهور أشكال من السلوك العسكري وأشكال من العرض والتمثيل المرئي الإعلامي برزت بنفس القدر إلى حدٍ لا مثيل له من التبادل والتماثل لأجل الترويج العالمي والاستهلاك الإعلامي. مقارنة لم يسبق لها مثيل وبشكلٍ مذهل لوسائل الإعلام المتعددة وصُنّاعها في بيئة التواصل مع الانفجارات والاضطرابات الناتجة عنها من المواضيع والمدلولات على أرض الواقع».
الصورة البصرية
يؤكد هذا الكتاب أنه لم يعد بالإمكان تناول مسألة صناعة الصور (فعل التصوير)، أو مسألة العنف (فعل إطلاق النار)، وبصورة أعم في الحرب المعاصرة، من دون الأخذ بعين الاعتبار البنية التحتية البشرية والتكنولوجية لبيئة شبكات التواصل، إذا ما نظرنا إلى النزاع الدائر وقد بلغ حد الإنتاج وإعادة الإنتاج كعمل متجدد. لقد أصبحت سوريا ساحة لحرب التواصل الاجتماعي الأكثر تعقيداً والأولى من نوعها، والتي من خلالها قامت المؤسسات التكنولوجية بدعم أساليب وتقنيات التحميل والمشاركة والتعديل أو الدمج إلى جانب الشبكة البشرية والأفراد المنخرطين في هذه الأساليب، وتورطت بدرجة كبيرة في إنتاج وإعادة إنتاج العنف في سوريا.
إن تشابك الأنظمة البصرية للتمثيل وطرق الإنتاج الإعلامي، مع الحرب وطرق التدمير ازدهر واستفاد من البعد التشاركي لتقنيات الاتصالات الشبكية. لقد منحت شبكات التواصل أقصى قدر من الوضوح والقدرة على المشاركة ما أوصل الحال إلى ممارسة أقصى درجات العنف، وأخيراً دمج دمار الأماكن بالتجديد غير المحدود لها عبر الإنترنت، لينتج مزيداً من الحياة التي تتجدد في كل مرةٍ بالشكل الذي يتم فيه التلاعب بالمحتوى.
«يلمح النزاع السوري إلى شكل من الحرب والرؤية التي تتسم باللانهاية، والتي أيضاً سمة جوهرية للبيئة الشبكية. تمتد الحرب في سوريا في مجالٍ زمني متعدد الطبقات يبدو بلا نهاية حيث ينفجر البعد المكاني ويتوسع بطريقةٍ تحاكي تماماً العمليات الشبكية التي تفتقر إلى تنظيمٍ مركزي أو تسلسل هرمي أو إحساس بالترتيب.
سوريا لم تعد موجودة ككيان جغرافي متماسك، فحتى وقتنا هذا نجد أن النظام يسيطر على مناطق معينة بينما بعض الفصائل، بالإضافة إلى قوات الحماية الشعبية الكردية تحكم أجزاء على طول البلاد. في الوقت نفسه تستمر وتمتد السيطرة على الفضاء السوري للحد من توسع خلافة داعش المزعومة والمفترضة عالمياً، والتي تحاول بين الحين والآخر إيجاد كيان ملموس لها على الأرض كما حدث سابقاً في الرقة».
تعلق الكاتبة هنا: «وبغض النظر عن استئصال داعش جسدياً؛ كما تهدف إليه قوات التحالف الدولي التي تقاتل ضد الإرهاب، فإن»الدولة الإسلامية«المزعومة باقية وعلى ما يرام في بيئة شبكة التواصل.
ويبدو أن داعش قد استوعبت تقنيات التواصل الشبكية تماماً طالما نجحت في إنشاء أشكال من الشبكات القوية والفنية الجميلة، وابتكار أساليب جديدة من العنف في الوقت نفسه، وطرق غريبة في شرعنة العنف على الأرض من أجل القدرة على إعادة الإنتاج الإعلامي، والمشاركة بين الأقران، وإعادة توزيع الفيروسات على الشبكات».
نبذة عن الكاتبة
* دوناتيلا ديلا راتا كاتبة دنماركية وبروفيسورة متخصصة في الإعلام والثقافة البصرية في سوريا. وهي محرّرة في مجلة «ميديا ميديا موغل». قامت بتنظيم معارض دولية حول الفن والسينما في سوريا، وذلك خلال دراستها الدكتوراه في جامعة كوبنهاجن، وفي المعهد الدانماركي في دمشق. تتناول في أعمالها الاقتصاد السياسي للإعلام العربي مع التركيز بشكل خاص على القنوات الإخبارية العربية، ونشر العديد من المواد عن الشبكات الفضائية العربية. وهي الآن تحول تركيزها البحثي على المواطنة النشطة والمقاومة الإبداعية في الانتفاضات العربية.. وكانت تنشر في موقع متخصص لها مقالات عن وسائل الإعلام العربية.
<br/>