سعى اليهود إلى تجريد الشعب الفلسطيني من أرضه بكل السبل، وعملوا على مسح التاريخ العريق لفلسطين وشعبها، وادّعوا أن علاقتهم التاريخية مع أرض فلسطين هي الأرسخ والأقدم، إلا أن مؤلف هذا الكتاب يحاول أن يقدم وجبة دسمة عن التاريخ الفلسطيني العريق، ويدحض روايات «إسرائيل» المزيفة.حتى قبل صدوره، حظي كتاب «فلسطين: تاريخ من أربعة آلاف عام» للمؤرخ والأكاديمي البريطاني-الفلسطيني نور الدين مصالحة، بترقب كبير من قبل أكاديميين وكتاب وباحثين، من العرب والغربيين، ومن المهتمين بالقضية الفلسطينية والمعنيين بها وبتاريخها وواقعها من منظور الوقائع التاريخية، التي تفكك المقولات الغربية الداعمة للسرديات اليهودية . وبحسب وصف إيلان بابيه، أحد كبار المؤرخين الجدد في «إسرائيل»، فإن أهمية هذا الكتاب؛ تنبع من أنه يكشف بدقة التشويهات، التي يفرضها الصهاينة حول تاريخ فلسطين والشعب الفلسطيني. كما أشاد به المؤرخ الأمريكي- الفلسطيني رشيد خالدي، ووصفه بأنه كتاب يجب قراءته؛ بغية الوصول لفهم دقيق وعميق لجذور مسألة أرض فلسطين وسكانها الأصليين. الكتاب صادر عن منشورات «زيد بوكس» في منتصف أغسطس/آب الماضي، ويقع في 458 صفحة موزعة على مقدمة وعشرة فصول.
الأصل
يعود المؤلف إلى العصر البرونزي المتأخر، قبل حوالي 3200 عام، حين استقبلت الأرض، التي ستعرف ب«فلسطين» مجموعات مهاجرة من مناطق مختلفة. هاجمت هذه الشعوب في البداية سواحل الشام ومصر؛ لكنها استقرت في الجزء الجنوبي من فلسطين، وورد في النقوش الأثرية اسمها «ب ل س ت»، ومنها جاءت تسميتهم «فلسطيون» ثم زيدت النون إلى اسمهم فأصبحوا فلسطينيين. اندمج الفلسطيون بالكنعانيين، واستعملوا لغتهم وعبدوا آلهتهم، ورغم أن أولئك «الفلسطينين» ذابوا في السكان إلا أنهم أعطوا هذه الأرض اسمهم فأصبحت تعرف ب«فلسطين». وبحسب ما يورد المؤلف في مقدمته، فإن «فلسطين هي الاسم التقليدي الذي استخدم طوال الفترة بين عام 450 قبل الميلاد حتى 1948 ميلادية، لوصف المنطقة الجغرافية الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، مع عدة أراض متاخمة». ويضيف مصالحة، أن هذا العمل يحاول «تعقب واستكشاف تطور مفهوم، تواريخ، هوية، لغات وثقافات فلسطين منذ العصر البرونزي المتأخر وصولاً إلى العصر الحديث».
تاريخ شعب
ثم ينتقل الكاتب إلى نقطة تعدّ من الركائز الرئيسية في دراسته، وسيعود إليها مراراً بالشرح والتتبع والتدقيق، وهي أنه «غالباً ما يدرّس تاريخ فلسطين في الغرب على أنه تاريخ أرض، وليس كتاريخ فلسطينيّ أو تاريخ شعب». ويذكر أن المهمة، التي يضطلع بها هذا الكتاب هي «تحدي المنهج الكولونيالي وتحدي الأسطورة الخبيثة، التي تروج لفلسطين على أنها أرض بلا شعب. كما يجادل بشأن قراءة تاريخ فلسطين بعيون سكان فلسطين الأصليين». ويتابع في المقدمة بالقول إن «الفلسطينيين هم سكان فلسطين الأصليون؛ جذورهم المحلية مغروسة عميقاً في تراب فلسطين، كما أن تراثهم التاريخي وهويتهم الأصيلة قد سبقا بوقت طويل نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية الناشئة في المرحلة الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية ومجيء المستوطنين الصهاينة قبيل الحرب العالمية الأولى». ويركز الكاتب على المنظور الذي يُكتب التاريخ من خلاله، والمنهج الذي يسجل عبره، ويقول: إن «فريدريك نيتشه قد رأى أن التاريخ غالباً ما يكتب من، وعبر، منظور محدد بحيث يبدو الماضي مختلفاً من منظور آخر، على الرغم من أن منظوراً ما قد يكون نظرياً أكثر موثوقية وواقعية أو أقل تشويهاً من منظور آخر. لا يطمح هذا الكتاب لخلق سردية كبرى عن فلسطين، وإنما يضطلع في المقام الأول بمواجهة الأساطير التأسيسية للصهيونية ودحضها».
فلسطين ككيان إداري
«احتل البريطانيون القدس في ديسمبر/كانون الأول 1917، وغالباً ما يجادل المؤرخون أن فلسطين لم تكن موجودة كوحدة إدارية رسمية حتى الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1918. وفي الواقع فإن فلسطين وجدت حقاً كوحدة إدارية ومقاطعة رسمية لما يزيد على آلاف الأعوام؛ إذ إنها ظهرت في البداية كمقاطعة رومانية هي سوريا فلسطين (135-390 ميلادية)، ومن ثم كمقاطعة انفصلت عن سوريا، في شكل ثلاث مقاطعات إدارية لفلسطين البيزنطية. وقد كانت هذه المقاطعات الثلاث محكومة، بشكل فاعل، سياسياً وعسكرياً ودينياً من فلسطين الأولى منذ القرن الرابع حتى قرابة القرن السابع. كما أن فلسطين قد وجدت مجدداً كمقاطعة إدارية منفصلة على هيئة مقاطعة عربية مسلمة هي «جند فلسطين». واستمرت هذه المقاطعة العربية المسلمة لقرابة أربعة قرون ونصف القرن، من الفتح الإسلامي لفلسطين عام 637-638 حتى الغزو اللاتيني الصليبي عام 1099 ميلادية.
فلسطين- بلاد الشام
يشير المؤلف في فقرة فرعية في المقدمة إلى «التفريق بين فلسطين، الشام، بلاد الشام وسوريا المعاصرة: فلسطين كمقاطعة إدارية مسلمة، الشام كمنطقة جغرافية إسلامية». ويقول«لقرابة خمسة قرون، من عام 630 حتى الغزو الصليبي لفلسطين عام 1099 ميلادية، وإنشاء أول مملكة لاتينية صليبية في القدس (1099-1187)، فقد وجدت المقاطعة العربية الإسلامية الرسمية «جند فلسطين» ضمن نطاق جغرافي أوسع هو «منطقة الشام». وبحسب علم الخرائط والجغرافيا المسلمة، كانت «الشام» منطقة جغرافية واسعة تضمنت مقاطعات هي اليوم سوريا، فلسطين/«إسرائيل»، لبنان، الأردن وجنوب تركيا. ولعدة عقود، تكونت «الشام» من عدة مقاطعات مسلمة، ومن ضمنها فلسطين». ثم ينتقل الكاتب ليذكر خلال السياق المستشرق الإنجليزي غاي لا سترانج وكتابه المهم بعنوان «فلسطين تحت إدارة المسلمين: وصف لسوريا والأراضي المقدسة بين 650 إلى 1500 ميلادية» والمنشور في لندن بتمويل من صندوق لجنة استكشاف فلسطين. ويشير مصالحة إلى أنه «بعد إطلاع لا سترانج وعمله بشكل مكثف على الكثير من ترجمات الجغرافيين العرب في العصر الوسيط، فقد خلص إلى تسمية جميع المناطق المرتبطة جغرافياً بالشام ك «سوريا». وقد زاد بعض المؤرخين الحديثين لاحقاً من هذا الالتباس عند تناولهم مسألة الشرق الأوسط»، وجدير بالذكر أن هناك حقيقة يجب أخذها في الاعتبار، وهي أن دمشق، عاصمة سوريا الحديثة، كانت تسمى أيضاً، تاريخياً، ب «الشام».
فكرة فلسطين
ينتقل الكاتب لمناقشة فكرة أن تكون فلسطينياً، أن تصبح فلسطينياً: إعادة تخيل الهوية المكانية الفلسطينية، من الإقليمي إلى القومي. يقول: «بعكس ما تنبئ به السرديات الأسطورية في العهد القديم، فإن تاريخ فلسطين له «بدايات» متعددة، كما أن فكرة فلسطين قد تطورت مع الوقت من هذه «البدايات» المتعددة إلى مفهوم جيو سياسي ونظام حكم مناطقي متمايز بذاته». ويمضي الكاتب في مناقشته لهذه الهوية وتمثلاتها على الأرض، فيقول إنه «غالباً ما نُظر إلى مفهوم فلسطين بطريقة مجردة أو لا تاريخية، أكثر من تمثيل سياقي لكيان تطورت حدوده (المادية، الإدارية، المناطقية والثقافية) وتغيرت عبر ثلاثة آلاف عام». ويتابع الكاتب إنه «على الرغم من وجود بدايات متعددة ومعان متعددة لفكرة فلسطين، إلا أن السؤال الأهم لا يكمن، كثيراً، في تقصي«أصل»فكرة فلسطين، أو من أين جاءت هذه الفكرة، وإنما كيف تطورت هوية فلسطين وجرى اختبارها عبر الزمن وخلال الحقب المتوالية». ويشير المؤلف إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، وبخاصة إلى أفكاره في كتابه «الكينونة والزمان» لا سيما الزمانية (الماضي-الحاضر-المستقبل) والطريقة التي يختبر بها البشر العالم عبر الزمان؛ ليخلص إلى أن الأفكار والخطابات حول فلسطين، يجب أن تكون متزامنة وتعاقبية كما هي التجارب الإنسانية حول الزمن الفلسطيني. ارتبط الوعي الجمعي الأهليّ في فلسطين لزمن طويل بمصطلحات عربية مثل«أهل فلسطين»،«أبناء فلسطين»أو«أبناء البلد». ثم تبعته مصطلحات عربية قومية؛ مثل«شعب فلسطين»، أو«الشعب الفلسطيني». وبالطبع، فإن المضامين الحقيقية للمصطلحات والتمثيلات الهوياتية والاجتماعية الجمعية قد تطورت وتغيرت تاريخياً، وبالتالي فإن تطور الهوية المتعددة لشعب فلسطين ليس استثناء. كما أن الدلالة الإسلامية للكلمة العربية«شعب»قد وردت في القرآن بشكل واضح ومنصوص، ويحمل دلالة إيجابية وجمعية، بقوله:«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...»وبهذا، فإن التعددية الاجتماعية أضحت أساسية للطريقة التي تشكلت بها الهويات الجمعية للمفهوم الأصلي خلال التاريخ الإسلامي. ويشير إلى الكتابات العربية الفلسطينية بين القرن 15 والقرن 20. ويقول إن هذه التمثيلات مشكلة على النحو التالي: المصطلحات العربية «أهل فلسطين»و«أرض فلسطين» استخدمت بشكل متكرر في كتابات الكتاب العرب الفلسطينيين الأصليين بين القرن 10 والقرن 18، أي قبل زمن طويل من نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية أواخر القرن 19 ومطلع القرن ال 20. وفي النصف الثاني من القرن 19 تطور مصطلح «أهل فلسطين»إلى«أبناء فلسطين»أو«أبناء البلد»ثم تحول المصطلحان إلى «شعب فلسطين»مطلع القرن ال 20 ثم أصبح «الشعب الفلسطيني»و«الكيان الفلسطيني»في النصف الثاني من القرن ال20.
دولة واحدة - دولتان؟
يتطرق الكاتب إلى الجدال الدائر بشأن حل الدولة أو حل الدولتين، ويقول إن هذا الأمر وراء نطاق هذا العمل. ومع ذلك، فإنه سيستكشف التجارب المفاهيمية لفلسطين من الداخل ومن الخارج. وسيميز الكتاب بشكل واضح بين فلسطين كدولة وبين «الوعي الجمعي المكاني والمناطقي» لفلسطين، من جهة، والقومية الفلسطينية و«الوعي القائم على القومية المناطقية» من جهة أخرى. الوطنية والقومية الفلسطينية، شأنها شأن بقية الوطنيات والقوميات، هي ظاهرة حديثة. ثم يشير الكاتب إلى عدد من المفكرين الذين تحدثوا في أعمالهم عن ال«جماعات المتخيلة»، وبخاصة بيندكت أندرسن في كتابه المنشور بالعنوان ذاته، إضافة إلى إدوارد سعيد، رشيد خالدي ومحمد مصلح إلى جانب آخرين. يقول مصالحة: إن فلسطين كدولة (بحدودها المتغيرة) قد وجدت تاريخياً لأكثر من ثلاثة آلاف عام، وهذه الحقيقة التاريخية ارتبطت بالوعي الجمعي المكاني عن فلسطين كدولة تحت حكم المسلمين، وهذا ما يمكن ملاحظته من داخل«فلسطين». ثم يحيلنا إلى الأفكار (والتمثيلات) المتعددة حول كينونة فلسطين وكينونة الفلسطيني، وهي أفكار وتمثيلات قديمة، وسيطة، حديثة وقومية. وبالتالي، فإن «جزءاً كبيراً من الهوية القومية يعود إلى الارتباط بالماضي وبفلسطين كدولة... كما لا يمكن قبول الفكرة التي نشأت في أواخر القرن 19 ومطلع القرن ال 20 والقائلة إن الهوية القومية الفلسطينية قد جاءت من العدم أو أنها لا تشكل شيئاً».إن الجزء الأعظم للفترة المكونة من آلاف السنين من تاريخ فلسطين كدولة، قد روي ضمن مجموعة من القصص التي استكشفت هوية البلاد المتنوعة وتطورها، ما أدى إلى الهوية الفسيفسائية للبلاد، لكن لا علاقة لهذا بالصراع الفلسطيني-الصهيوني الذي يعدّ، من الناحية التاريخية، قد تطور في فترة حديثة نسبياً؛ في أواخر القرن 19 ومطلع القرن ال20. كما أنه لا ينبغي خلط مفهوم فلسطين وهويتها التاريخية أو دمجها تلقائياً مع إعادة صياغة وإعادة تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة، على الرغم من أنه من الواضح أنه سيكون لهذه الأخيرة تأثيرها الكبير على تصور وتمثيلات وتطور فلسطين الحديثة من أواخر الفترة العثمانية فصاعداً. كما أن المواضيع المستوردة كالحداثات والوطنية والعرقية والدولة القومية تعدّ من أبرز القضايا التي تشغل مؤرخي «الشرق الأوسط الحديث».
حفظ التراث والذاكرة
اليوم، الفلسطينيون عرب؛ ثقافياً ولغوياً، كما أن معظمهم، وليس كلهم، مسلمون. وينحدر معظم المسلمين الفلسطينيين من أصول أسلافهم المسيحية واليهودية ممن دخلوا الإسلام بعد الفتوحات الإسلامية في القرن ال7، وورثوا الكثير من التقاليد الاجتماعية، الثقافية، الدينية واللغوية عن الفلسطينيين القدماء. إن تطور القومية الفلسطينية في العقود الأخيرة أثار وعياً كبيراً بشأن المكتشفات الأثرية والكتابات التي تستند على دراسات إنجيلية ترتبط بقضية التراث التاريخي المشترك لفلسطين والفلسطينيين. كما يخلص الكاتب إلى ضرورة وأهمية توثيق التراث الفلسطيني بوسائط تقنية حديثة، على اعتبار أن المحافظة على الثقافة الفلسطينية حية ومفعمة بالحسّ أمر حيوي. كما يشير إلى «الحاجة الملحة لتدريس التاريخ القديم لفلسطين وسكانها الفلسطينيين الأصليين من (مسلمين، مسيحيين، سامريين، ويهود). ويقترح آليات لخلق فهم عصري وحديث للاجئين الفلسطينيين في المنفى لتراث وذكريات أرضهم الأصلية.
نبذة عن المؤلف
ولد الكاتب والمؤرخ البريطاني-الفلسطيني نور الدين مصالحة في الجليل عام 1957. يعمل أستاذاً باحثاً في جامعة SOAS في لندن. كما يساهم كمحرر في دوريات مثل«الأرض المقدسة» و«الدراسات الفلسطينية». نشر كتباً مهمة في الشأن الفلسطيني منها «إبعاد الفلسطينيين»،«أرض بلا شعب»، «سياسات الإنكار»، «الإنجيل والصهيونية»،«النكبة الفلسطينية»، إضافة إلى أحدث كتبه:«فلسطين: تاريخ من أربعة آلاف عام».