هل تختلف الإمبراطورية الأمريكية عن غيرها من الإمبراطوريات؟ هل هي الوريث الشرعي للإمبراطورية البريطانية؟ بماذا تختلف عن غيرها؟ نتعرّف إلى الكثير من التفاصيل في هذا العمل البانورامي الذي يقدم منظوراً عالمياً جديداً عن تاريخ الولايات المتحدة. ويعتمد المؤلف على خبرته في التاريخ الاقتصادي والإمبراطوري لبريطانيا، وأوروبا، وينطلق من الحقبة الاستعمارية إلى الوقت الراهن، لإظهار كيف أن الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، اتبعتا مسارات مماثلة طوال هذه الفترة الطويلة، وكيف امتد اعتماد أمريكا على بريطانيا وأوروبا لاحقاً.في رواية شاملة تمتد على مدى ثلاثة قرون، يصف هوبكنز كيف أن ثورة مستعمرات البر الرئيسي كانت نتاج أزمة أصابت دول أوروبا الإمبريالية بشكل عام، وكيف أن تاريخ الجمهورية الأمريكية بين 1783 و1865 كان رداً على إنهاء النفوذ البريطاني، ولكن لتحقيق توسع مستمر. ويبيّن المؤرخ البريطاني المتقاعد كيف أنّ تأسيس دولة أمريكية صناعية بعد الحرب الأهلية، بالتوازي مع التطورات في أوروبا الغربية، عزز تأثيرات مشابهة مزعزعة للاستقرار، ووجدت هذه الدولة منفذاً للإمبريالية من خلال اكتساب إمبراطورية معزولة في منطقة الكاريبي، والمحيط الهادئ. ويقول: «عكست فترة الحكم الاستعماري التي أعقبت تاريخ الإمبراطوريات الأوروبية شكلاً من تبريراتها الإيديولوجية، والعلاقات الاقتصادية والمبادئ الإدارية. وبعد عام 1945، أدى تحول عميق في طابع العولمة إلى إنهاء عصر الإمبراطوريات الإقليمية العظيمة». موضوع الكتاب هو أحد أوجه التاريخ الأمريكي، وليس كل التاريخ الأمريكي، إذ يجد هوبكنز أن الموضوع لا يزال ضخماً، والمخاطر فيه هائلة.
حصار الكوت
يبدأ هوبكنز عمله بالحديث عن حصار الكوت (العراق) في الحرب العالمية الأولى، فقد كانت المدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية، ولقي البريطانيون فيها بقيادة اللواء تشارلز فيرير تاونشند، هزيمة نكراء بآلاف القتلى، والجرحى. وكانت من أكبر المعارك حينها، وشكلت ضربة للإمبراطورية البريطانية التي بدأت بالانحدار من حينها، بعد أن كانت تلعب دور الشرطي العالمي من 1815 إلى 1914. يقول هوبكنز: «قد يكون من غير المتوقع البدء بالحديث عن تاريخ الإمبراطورية البريطانية في كتاب يحمل عنوان «الإمبراطورية الأمريكية»، حتى إن اللواء تاونشند نفسه ما كان ليتوقع أن يأتي فشله في السيطرة على الكوت في سياق تحليلي بشأن الغزو الأمريكي للعراق في بداية القرن الواحد والعشرين. ومع ذلك، تتم إعادة اكتشاف التاريخ عندما يختلّ النظام العالمي، خاصة من قبل المحللين الذين يعودون إلى الأحداث الماضية لفهم جذور المشكلات الراهنة. فصدمة «11 سبتمبر» ربّما لم تغيّر العالم، كما قيل وقتها، كما أنها من غير شك حفّزت السياسة الخارجية الأمريكية، وشجّعت تقديرات جديدة بعيدة المدى لدور الولايات المتحدة في دعم ومضايقة النظام العالمي، وولّدت نوعاً هائلاً من دراسات الإمبراطورية». ويضيف: «بهذه الطريقة، ينظر إلى النهاية المخزية لمسيرة تاونشند كحكاية رمزية لصعود وسقوط الإمبراطوريات. على العموم، تم الاختلاف على مغزى القصة. بالنسبة لبعض المراقبين، امتد تأثير حصار الكوت على أكثر من الكتيبة السادسة. هذا الحصار هيمن على الإمبراطورية البريطانية في ذروتها، وكانت اللحظة التي بدأ فيها الانحدار الحتمي، وسلمّت الإمبراطورية البريطانية عصا الحكم إلى وصي جديد وأكثر شراسة للحضارة الغربية وهي: الولايات المتحدة». ويشير إلى أنه «من وجهة النظر هذه، فإن تاونشند كان سجين القوى الدورية التي كانت متنفذة إلى درجة كافية لتقوم بدعم، أو إسقاط الدول العظمى حتى»، ويرى أن «أحداث 1915، مثل التي حدثت في 2003، يمكن أن تكون لها نتيجة واحدة. فكل السلالات الصينية فقدت في النهاية «وصايتها على السماء»؛ والإغريق علموا أن «التكبر البشري» تجاوز قوة الإلهة «نمسيس» في الميثولوجيا الإغريقية؛ وابن خلدون وضع مراحل النمو، والتوسع، والتدهور للإمبراطوريات؛ والإيطالي جيامباتيستا فيكو وضع ثلاثة عصور متكررة للإمبراطوريات؛ كما أن نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عن صعود وسقوط الحضارات جعل منه شخصية شهيرة في الولايات المتحدة. ويستمرّ «الانحداريون» الحداثيون في جسّ نبض الدولة في لحظات الكآبة، ويعيدون التأكيد على أن النهاية قريبة».
حاجة العالم إلى «زعامة»
معلقون آخرون تراجعوا عن التشاؤمية العنيدة التي بسطت هيمنتها على المستقبل، كما يرى هوبكنز، ويعلق على ذلك: «في رأيهم، كانت الولايات المتحدة هي السليل الشرعي للإمبراطورية البريطانية. ومصير تاونشند حدّد تحوّل المسؤوليات العالمية من قريب مسن إلى خلف فتي. وقدّم المنظرون السياسيون في الولايات المتحدة حججاً لدعم مزاعم أن العالم كان بحاجة إلى زعيم مهيمن، ومسيطر ليمنع حدوث الفوضى العالمية». ويوضح أكثر: «جي أي. هوبسون توقع هذا الأمر في وقت سابق. فقد أشار بقوله إن الفلاسفة السياسيون في العديد من العصور توقعوا أن الإمبراطورية هي الضامن المناسب الوحيد للسلام، والتسلسل الهرمي للدول تطابق على نطاق أكبر النظام الإقطاعي ضمن دولة واحدة». ويضيف: «علاوة على ذلك، يمكن التعلم من دروس التاريخ، إذ نجد أنه من خلال جمع القدرة التحويلية للتكنولوجيا المتقدمة، مع الرؤى النافذة للعلوم الاجتماعية الحديثة، يمكن لأي قوة عظمى أن تنزع السلاح من المعارضين لها، وتنشر التقدم عبر العالم، وتتجنب الانحدار. وبالانطلاق من هذا الموقف المشجّع، فقد تربّعت الولايات المتحدة على قمة عملية التطور الطولي الذي يملك أصولاً في تفاؤلية التنوير. فقد اعتقد كل من هيجل وماركس، في طريقتيهما المختلفتين جداً، أن القوى الجدلية سوف تحمل المجتمع إلى مستويات أعلى من الإنجاز. وبالنسبة لهنري مين، ألزمت العملية تغيراً من الحالة إلى العقد. وربط هيربرت سبينسر التطور الاجتماعي بالفردانية الثورية. تالكوت بيرسونس عرف كيفية تحويل «التقليدي» إلى مجتمعات «حديثة». وأنتج «انتصار» سنوات التسعينات «نهاية التاريخ»». بهذه الطريقة غير المتوقعة، يقدّم النظر في حصار الكوت أجندة تتضمن العديد من القضايا الأساسية في تاريخ الإمبراطوريات. فعلى وجه الخصوص، وضعت هذه الواقعة وتفسيراتها المرتبطة بها بعد غزو العراق في 2003، قيمة حالة الولايات المتحدة في سياق أبعد بكثير من حدودها الوطنية. وكانت إحدى الطرق لتحقيق هذا الموضوع هي من خلال التأكيد على الملحمة الوطنية في سياق عالمي، وإمبريالي بشكل محدد.
ارتباط تاريخي
يرى هوبكنز أن العولمة والإمبراطوريات مترابطة عبر ثلاثة قرون في هذه الدراسة. فالإمبراطوريات كانت تلعب دور المبتكرين الحازمين، ووكلاء العولمة. قائلاً: «سارت نبضات التوسّع والانكماش في انسجام: سلاسل السبب والنتيجة سارت في كلا الاتجاهين. ومراحل العولمة الأساسية الثلاث المعرّفة في هذه الدراسة خضعت لأزمات تحويلية في نهاية القرن الثامن عشر، وفي أواخر القرن التاسع عشر، وفي منتصف القرن العشرين. وكان لكل مرحلة تأثير عميق في ثروات ومسار الإمبراطوريات. وكل تحوّل كان يتم عبر عملية جدلية غيّرت التراكيب الاقتصادية والسياسية للإمبراطورية، وغيّرت التوزع الجغرافي للحكم الإمبريالي، إلا أن نظرة عالمية تغيّر السؤال المطروح خلال بعض المواضيع الأساسية في تاريخ الولايات المتحدة. الأجوبة التي تقدّمها ينبغي أن تربط مصالح المجموعتين المختلفتين من المتخصصين: مؤرخو الولايات المتحدة ومؤرخو الإمبراطورية». ويشير إلى أن التاريخ الذي يظهر من هذه المراحل المختلفة للعولمة الإمبريالية يقدّم قراءة بديلة لبعض التطبيقات المماثلة لمصطلح «الإمبراطورية». فتاريخ مستعمرات البر الرئيسي لبريطانيا في أمريكا الشمالية قبل 1783 يمكن أن تعاد صياغته لإظهار كيف أن النبضات المتحولة من خلال بدايات العولمة الحديثة كانت مدعومة أولاً ثم قوّضت التوسع الإمبريالي الذي عززته الحكومة المالية- العسكرية. ويضيف: «السنوات بين 1783 و1945، التي يعرّفها المؤرخون بشكل رئيسي كقصة نمو الدولة ومسعاها إلى الحرية والديمقراطية، يمكن أن ينجذب أيضاً إلى نطاق التاريخ الإمبريالي. وفي الوقت الحاضر، الإمبريالية والإمبراطورية تقومان بظهور محدود فقط، بشكل نموذجي في دراسات التوسع القاري، وعلى ما يبدو في الوقائع الشاذة مثل: الحرب مع إسبانيا في 1898. وإذا ما تم النظر إلى التاريخ كتمرين مطوّل في إنهاء الاستعمار، فإنه على أي حال، يمكن فهم الفترة التي تعود إلى الحرب الأهلية كبحث عن الحكم الذاتي، خلالها بقيت الولايات المتحدة خاضعة لنفوذ بريطاني غير رسمي. والسنوات بين الحرب الأهلية والحرب الأمريكية - الإسبانية يمكن حينها أن تتم إعادة صياغتها لتؤكد على العمليات المشتركة لبناء الدولة، والتصنيع، وتحقيق الاستقلال الموضوعي، وتأسيس إمبراطورية تمتد إلى ما وراء البحار».
حدود القوّة الأمريكية
دشنت الحرب مع إسبانيا مرحلة جديدة في تاريخ الإمبراطورية الأمريكية. فقد أصبحت الولايات المتحدة قوة استعمارية في الباسيفيك والكاريبي؛ ورغم ذلك فسجلها في توصيل نسختها من «مهمة التحضر» الغربية موجودة الآن تحت المراقبة. مع ذلك، فإن دراسة الحكم الاستعماري الأمريكي بين 1898 وإنهاء الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية تعتبر واحدة من أكثر المواضيع المهملة في تاريخ الولايات المتحدة، وتقدّم آفاقاً بحثية لجيل جديد من المؤرخين بحسب الكاتب. ويقول حول ذلك: «إن عملية إنهاء الاستعمار في منتصف القرن العشرين ضمت إلى التغيرات في شخصية العولمة التي شكّلت عالماً متعدد الأعراق يتجاوز الحدود الوطنية. هذه المرحلة الجديدة كانت غير متوافقة مع خلق، أو إبقاء الإمبراطوريات الإقليمية. ومع ذلك، بعد 1945، خلق مصطلح «الإمبراطورية» الأمريكية ظهوره الأخير في دراسات تتحدث عن القوة الأمريكية غير الرسمية، وغير المباشرة، المفروضة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ويتم استكشاف هذه المفارقة الواضحة في نهاية هذه الدراسة البحثية التي تقيّم حدود القوة الأمريكية في عصر عولمة ما بعد الاستعمار. ومن خلال وضع الفترة ككل في سياق الإمبراطوريات الغربية، بشكل عام، والنموذج البريطاني، بشكل خاص، من الممكن إدراك التوجهات المشتركة في ما اعتبر غالباً بطريقة، أو بأخرى، كقصة وطنية منفصلة. ويمكن رؤية الثورة الأمريكية كامتداد لأزمة المقاطعات الخارجية التي كانت تنزل على الحكومات العسكرية- المالية لأوروبا في أواخر القرن الثامن عشر. وفي الفترة بعد 1783، لم تكن كثيراً قصة صعود «الحرية والديمقراطية» كشكل من الصراع بين المحافظين والإصلاحيين على شكل الدولة ما بعد الثورية التي عكست صراعات متشابهة في أوروبا بعد 1815. ويرى هوبكنز أن «عملية بناء دولة صناعية-وطنية ردّدت صدى التطورات في أوروبا، من بينها التمدد إلى الإمبريالية العسكري. وفي معاينة لفترة الحكم الإمبريالي اللاحقة، يظهر أنه، بعد 1898، الإمبراطورية المنفصلة في جزيرة، والتي كسبتها الولايات المتحدة، عاينت نفس طرق الحكم التي عاينتها الإمبراطوريات الغربية الأخرى، وشعرت بنفس تذبذبات الثروة، ووصلت إلى نهايتها في الوقت نفسه، وللأسباب نفسها». ويعود في خاتمة عمله إلى حصار الكوت ليقول إن «الرسالة من حصار الكوت هي أن الفشل في تقدير التغير الأساسي في الظروف التي تتم فيها ممارسة القوة، والطبيعة المتغيرة للقوة نفسها، حمل نتائج هائلة بالنسبة ل «النظام والفوضى» في العالم». ويختم عمله قائلاً: «إن المستنقع في العراق، الذي يتميز بسهولة الانجذاب إليه، وبطء الغوص فيه، يعيد التأكيد على حكمة ابن خلدون في اعتقاده أن التاريخ هو، أو ينبغي أن يكون، فناً عملياً مطلوباً لأجل «اكتساب التفوق في الحكم». وعلى الرغم من أن «دروس التاريخ» محل نقاش، إلا أنه يمكن مناقشة مزاياه وعيوبه، على الأقل، لضمان أن السياسات تتشكل في ضوء الأدلة، وليس في وجهها. اليوم، المؤرخون غير ملتزمين بوضع أنفسهم في خطر جسدي نيابة عن حكوماتهم الوطنية، لأسباب ليس أقلها، على خلاف ابن خلدون، أنهم الآن أبعدوا عن ممرات السلطة»؛ وعلى الرغم من العلاقة بين المعرفة المختلة والسياسات المختلفة، لابد من السعي إلى إسماع الصوت رغم القوة الكبيرة التي تواجه المؤرخين والخبراء، كما يقول المؤلف.
نبذة عن الكاتب
أي. ج. هوبكنز، من مواليد 1938، أستاذ متقاعد لتاريخ الكومنولث في جامعة كامبريدج، والرئيس السابق لكرسي والتر بريسكوت ويب في التاريخ في جامعة تكساس في أوستن. له العديد من المؤلفات من بينها: «التاريخ العالمي: التفاعلات بين الدولي والمحلي»؛ و»العولمة في تاريخ العالم»، و»الإمبريالية البريطانية: 1688-2015»؛ و»التاريخ الاقتصادي لغرب أفريقيا». ويعيش حالياً في كامبريدج( إنجلترا).
<br/>