عرّجت، في قراءاتٍ لمفكّراتٍ وكاتباتٍ اهتممن بوضعيات المرأة في المجتمع، معظمهنّ نسويات، الصّفة ذات السّمعة السيّئة عندنا، نحن العرب، على سيرة حياة الرّوائية والكاتبة الأميركية المعروفة في مجال النّقد الثقافي، سوزان سونتاغ، ولم أجد اهتماما كثيرا بهذا الموضوع، في يومياتها المعنونة "ولادة ثانية"، لذا شاهدتُ فيديوهات لحواراتٍ مصوّرة معها.
في أحد الحوارات، سُئلت سوزان، عن الكاتبة الأميركية، كاميلي باليا، التي أخذت مشعل الكتابة عن المرأة والفوارق الجنسية، وبشكل جميل، ومختلف، ولها كتاب ضخم بعنوان "الأقنعة الجنسية"، أجابت: لم أسمع بها من قبل. ثمّ سألها محاورٌ آخر عن تجاهل سوزان لها، وأجابت بأنّها تغار منها، لأنّها أصغر، وكتاباتها عن قضايا النّساء أحدث، وتلقى رواجًا أكبر، لذا لا ينبغي الاعتداد بكلامها، بما أنّه تمّ تجاوزُها الآن. إنّها تفسيرات غريبة، وعلاقة إنكار غير مبرّرة، بين امرأتين تكتبان في مجالاتٍ قريبة، تعني المرأة في قسمٍ مهم منها؛ قد تكون علاقةً تقليديةً بين كاتبتين، وربّما ليست هناك قاعدة تحكم بضرورة تصالح النّساء مع بعضهن، خصوصا اللّواتي يكتبن عن المرأة. على الرّغم من وجود مبدأ عام ينطلقن منه، ويفترض تضامنًا ضمنيًا، ولكن العمل الفردي، في المجتمعات الغربية، هو الأساس، والأنا متضخّمة، ولا يُفترض أن يوجد أيّ مجالٍ لتعاطفٍ يخضع لشيءٍ غير المصلحة الخاصّة. لكن كيف نعرف سوزان أكثر من كاميلي، نحن الذين خارج الولايات المتحدة؟ إنّه ما تمثّله من
انطلاقٍ واكب السّتينيات التي تألّق فيها نجمها. حينها كانت الكتابات في قضايا المرأة قليلة، ومن السّهل أن تقتحم العالم. وعلى الرغم من أنها لم تهتم بالمرأة أكثر من أي موضوع آخر كتبت عنه سوزان، إلا أنّها، ومع أنها مثلية، حاولت تقديم تصوّرها عن المرأة التي تمثّلُ وجهة نظر امرأةٍ ملّت من التصوّرات الجاهزة، كيفما كان نوعها. ولكن ما يثير الانتباه أنّ مشكلاتها مع حبيباتها النّساء، لم تختلف على مستوى الانسجام العاطفي، عما تواجهه علاقات الحب بين الجنسين؛ حسب ما يرد في يومياتها. ومع جِدّة الحديث عن المرأة وحقوقها آنذاك، ومحاولة فرض وجودها كائنا يتساوى مع الرجل في الانتماء الإنساني، الذي يفوق الانتماء الجنسي، كان التلقّي قويًا؛ ربما ليس بالشّكل الذي حدث به عندنا، نحن العرب، عندما تكلّمت كاتبات عربيات، مثل فاطمة المرنيسي ونوال السّعداوي. بينما الآن لم يعد هذا الخطاب رائجًا كموضة سريعة الفرقعة والزوال، ولم تعد اللّواتي يكتبن عن المرأة مثيراتٍ للجدل، إلّا إذا تعمّدن ذلك. ما يثير مسألة افتقاد خطاب عصري عربي عن المرأة بوصفها قضية تحرّرية، خطابٍ يتجاوز نوال السعداوي التي كان لها الفضل في إثارة النّقاش في قضايا عديدة تتعلّق بالمرأة، بقوّة. لكنّه خطابٌ غير ناضج، ويناسب الفترة التي تحدّثت فيها، وكنّا فيها بحاجةٍ إلى صدمة. أما الآن، فنحن بحاجةٍ إلى الحديث عن إشكالاتٍ أكبر، حقيقية وواقعية؛ نحتاج مقاربةً على الأرض لمشكلات المرأة مع المجتمع، وكيف يمكنها أن تتجاوز القيود النّفسية التي تنمو فيها، والتي تجعل منها، في أحيانٍ كثيرة، عدوّة نفسها، وعدوة المرأة الأخرى. نحتاج كتابات مثل ما كتبته سيمون دي بوفوار منذ عقود. في "الجنس الآخر"، محاولات جادة لقراءة تاريخ وجود المرأة في المجتمع، وكيف يمكن تعديل الكفّة بين الجنسين، بشكل حقيقي، وعلى الأرض. ويجب أن تقوم به المرأة نفسها، ليس لتبرهن على أحقّيتها، فهي أمرٌ سابقٌ لوجودها، إنّها شديدة الصّلة بكونها إنسانًا يتكوّن في الرّحم على هيئته البشرية، قبل أن يتحدّد جنسُه بعدها، وهو أمرٌ لا يعني تفوّق أحد الجنسين على الثاني، بل يعني التنوّع البيولوجي الكفيل باستمرار الجنس البشري، لا أكثر؛ لذا ستكتب عن شعور التّحليق بأجنحةٍ منتوفة، وألم الاصطدام بسقف الخُمّ الذي ظنته بيتًا. أي كتابة للمرأة عن المرأة هي محاولة لفهمها، وتفسير ردود فعلها على موقف الجماعة منها، وموقعها ضمن الجماعة. ويجب أن نُقرّ باستمرار الحاجة إلى دراساتٍ أعمق، للتعرّف على
أسباب استسلامها للدّور الثانوي في الحياة العامة الذي حشرت فيه، حتى لو نالت حقّها من التّعليم. عن تخبّطها في هذا الواقع، إنّها تدرس وتعمل، ولكنها تتعثّر، مُرهقةً، غير موفّقة في تحقيق أهدافها؛ تجد نفسها ممزّقة بين طموحاتها وما يسمّيه المجتمع بالواجب الاجتماعي. إنّها مفارقاتٌ عديدةٌ نمرّ بها؛ الفرق بيننا أنّها تُعاش في الغرب علنًا، يعرف بها الجميع، بينما ما نعانيه نحن يكون في العتمة، داخلنا. الاختياراتُ الجنسية، وصراعات المرأة العربية والشّرقية مع الرّجال في حياتهن لا تعتبر أشياء تتحدّث عنها المرأة بشكل علني وشخصي، وإلا اتهمت بالتّمرد أو النّسوية التي تُفهم عداوة للرجل، خصوصا رجال العائلة. الرّجال الشّرقيون الذين بالكاد يمكنهم أن يتقبّلوا نساءً مثقّفاتٍ برؤى مختلفة لن ينفتحوا على مناقشة مثل هذه الآراء، ولن يتقبلوا نقدًا جذريًا كهذا. كما أن المجتمعات العربية تحتاج صدماتٍ أخرى، مواقف أو سلوكات، لنساء كثيراتٍ يخلُقن حالة التّجاوز المطلوبة. ولكن إلى الآن، ما يُكتب عربيًا عن الموضوع، بالوتيرة الحالية، لا يحمل، بالشكل الحالي، عبء وجود امرأةٍ لم يكن يفترض أن تولد كذلك، لو انتصرت طبيعةُ الأشياء لها، لئلّا تكون هذه الأَمَة التي هي عليه عندنا. ولا تكون هذا المخلوق الذي تُعطى له حقوقٌ على الورق، ويتمُّ استغلاله في الدّورة الاستهلاكية الرّأسمالية البشعة التي توحّشت أكثر مما فعلت يومًا. لذا تكتب المرأة عن المرأة لتتخفّف من ثقل الموروث. وتغارُ المرأة من المرأة لأنّها لم تتعلّم المصالحة مع ذاتها، وتحقيق ما تريده هي، ما يجعل المرأة الأخرى رفيقة طريقٍ لا ضرّة افتراضية، تزاحمها على انتباه الذين حولها، والذين ليست بحاجةٍ لرضاهم عنها، إذا كانت هي في سلام مع نفسها. وبالعودة إلى سوزان وكاميليا، يتعلق الأمر بامرأتين قويتين في مجتمعٍ رأسماليٍّ متوحّش، والاختلاف بينهما يمكن أن يُعزى إلى عداوة الكار لا غير، كار الكتابة الذي يبدو أنه أكثر "الكارات" جذبًا للنّفوس القلقة والمتوتّرة، والتي تخشى زوال نعمة الكتابة، وتلعنها في آن واحد.