استعرض عبد الرحمن الكواكبي، بدقة وعمق، العلاقة الإشكالية بين الظاهرتين، السياسية والدينية. ولكنه في مسيرة الإنصاف كان عليه أن يرد تلك الأفهام المغلوطة والمضللة المسكونة بالافتراء والزيف؛ حتى أنهم بدلوا الدين بغير الدين، والفهم المزور بديلا عن الفهم الصحيح، حتى يصبّ ذلك كله في مصلحة الظاهرة الاستبدادية من حماتها وصانعيها وأصحاب المصلحة فيها، ومن ثم فقد جعل رائده في ذلك العبارة المفتاحية صادعا بها من غير وجل أو تردّد ".. اللهم؛ إنّ المستبدِّين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدِّين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوّة إلا بك!"... ".. والنّاظر المدقّق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدّين من الخلفاء والملوك الأولين، وبعض العلماء الأعاجم، وبعض مقلّديهم من العرب المتأخرين أقوالاً افتروها على الله ورسوله تضليلاً للأمة عن سبيل الحكمة، يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الله، ولكن؛ أبى الله إلا أن يتمّ نوره..".
والخلاصة أنّ البِدَع التي شوَّشت الإيمان، وشوَّهت الأديان، تكاد كُلُّها تتسلسل بعضها من بعض، وتتولّد جميعها من غرضٍ واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد"؛ كلمات جامعةٌ مانعةٌ لا تعرف التواءً ولا مماحكةً بوجه سهام الاتهام بدقة للظاهرة الاستبدادية بكل أركانها؛ المستبدون والشركاء من علماء السلطان المزوّرين من قطاع الطريق على الفهم الأمين للدين وعلى مصالح العباد والبلاد في العالمين. وهو يرد بكل عمق على جوقة المزوّرين من المستبدّين وشركائهم من علماء السلاطين ممن
تجرّأوا على الدين، فجعلوه غير الدين، ورجوا لتأويلاتهم الزائفة، ليفتنوا عموم الناس عن الفهم الصحيح الرصين، فبدا له أن يشرع بإدراك أمين بتأسيس منظومةٍ من القيم السياسية ودلالاتها وتأثيراتها على مجمل الحياة العامة والشأن العام، دفاعا عن الحرية والعدل والمساواة والشورى والاحتساب والمحاسبة والمراقبة والمسؤولية والمساءلة، كأسس للحكم الرشيد السديد العادل الفاعل لمواجهة كل تجليات الظاهرة الاستبدادية؛ إذ يرد ذلك كله إلى أصل متين، يتمثل في مرجعية التوحيد المكين فقد "...جاء الإسلام، مُؤسَّساً على الحكمة والعزم، هادماً للتّشريك بالكُلِّية، ومُحكِماً لقواعد الحرّيّة السّياسية..، فأسَّس التّوحيد، ونزعَ كلَّ سلطة دينية أو تغلّبيّة تتحكَّم في النّفوس أو في الأجسام، ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكلِّ زمان وقوم ومكان، وأوجد مدنيّة فطريّة سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين التي لم يسمح الزّمان بمثال لها بين البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إلا بعض شواذ؛ كعمر بن عبد العزيز... فإنَّ هؤلاء الخلفاء الرّاشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النّازل بلغتهم، وعملوا به واتَّخذوه إماماً، فأنشأوا حكومة قضَتْ بالتّساوي حتَّى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمّة في نعيم الحياة وشظفها... على أنَّ هذا الطّراز السّامي من الرّياسة هو الطِّراز النّبوي المُحمَّدي الذي لم يخلفه فيه حقّاً غير أبي بكر وعمر، ثمَّ أخذ بالتّناقص، وصارت الأمّة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إلى الآن، وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدِّين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسيّ شوريّ؛ ذلك الطّراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي، لربّما يصحُّ أنْ نقول، قد استفادت من الإسلام أكثر ممّا استفاده المسلمون". الوصل بين شبكة المفاهيم القرآنية التي تشكل حصونا مهمة لمواجهة بغي الاستبداد وطغيان المستبدين من عدل وفهم مدقق للطاعة المقصودة والاحتساب والمساءلة والمسؤولية والمعارضة المسؤولة ورعاية الشأن العام وأولى بمراعاة هذه القيم والوسائل المتعلقة بها أصحاب السلطة؛ على قاعدة ذهبية كلما زادت السلطة زادت المسؤولية؛ وكلما زادت المسؤولية تبعتها لزوما زيادة المساءلة والرقابة الفاعلة، إنها مواجهة كبرى في مواجهة الاستبداد اللعين، وها هو ".. القرآن الكريم مشحونٌ بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتّساوي حتّى في القصص منه...؛ لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات الآيات البيِّنات التي منها قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر"؛ أي في الشأن، ومن قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"؛ أي أصحاب الرأي والشأن منكم، وهم العلماء والرؤساء على ما
اتَّفق عليه أكثر المفسِّرين.. وليس بالأمر الغريب ضياع معنى "وأُولي الأمر" على كثير من الأفهام بتضليل علماء الاستبداد الذين يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعه، وقد أغفلوا معنى قيد "منكم"؛ أي المؤمنين منعاً لتطرُّق أفكار المسلمين إلى التفكير بأنّ الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله، ثمَّ التدرُّج إلى معنى آية "إن الله يأمر بالعدل"، أي بالتساوي؛... ثمَّ يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين، وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التي تحصد أمثالهم حصداً.. وقد عدّد الفقهاء من لا تُقبَل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا حتّى من يأكل ماشياً في الأسواق. ولكنّ شيطان الاستبداد أنساهم أن يُفسِّقوا الأمراء الظالمين، فيردّوا شهادتهم. ولعلّ الفقهاء، وما عذرهم في تحويل معنى الآية "ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" إلى أنّ هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين. والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض؛ لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم، كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير؛ فخصّصت منها جماعات باسم مجالس نوّاب، وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلّصوا بذلك من شآمة الاستبداد، أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب أهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسؤولية، حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كلّ معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟". "قابليات الاستبداد المشؤوم هي التي تمكن لكل عمليات الطغيان، وإن إقامة معاني الحكم الرشيد والتي تعد من مطلوبات المنظومة والمشروع الإسلامي الحقيقي هي من موجبات مقاومة الاستبداد ودعائمه وقابليات الطغيان ووسائله"... نعم؛ لولا حُلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيثُ أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسّس لهم أفضل حكومة أُسِّسَت في النّاس، جعل قاعدتها قوله: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته"؛ أي كلٌّ منكم سلطانٌ عام ومسؤول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي
أسمى وأبلغ ما قاله مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وعموميته؛ .. وهكذا غيّروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدِّين، وطمسوا على العقول، حتى جعلوا النّاس ينسون لغة الاستقلال، وعزّة الحريّة؛ بل جعلوهم لا يعقلون.. وكأنّ المسلمين لم يسمعوا بقول النّبي عليه السلام: "النّاس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربيٍّ على أعجمي إلا بالتّقوى". وهذا الحديث أصحُّ الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسِّراً الآية "إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، فإنَّ الله جلَّ شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله: "ولقد كرَّمنا بنيَ آدم"، ثمَّ جعل الأفضلية في الكرامة للمتَّقين فقط.. الإسلامية مؤسسة على أصول الحرّية، برفعها كلّ سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء.. وقد جعلت أصول حكومتها: الشّورى.. شورى أهل الحلِّ والعقد في الأمة بعقولهم، لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي.. وقد مضى عهد النبي، عليه الصلاة والسلام، وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتمّ صورها وأكملها "ولكن؛ وأسفاه على هذا الدين الحرّ، الحكيم، السهل، السمح، الظاهر فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه، الدين الذي رفع الإصر والأغلال، وأباد الميزة والاستبداد. الدين الذي ظلمه الجاهلون، فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان. الدّين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار، فسطا عليه المستبدّون والمترشحون للاستبداد، واتَّخذوا وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيَعاً، وجعلوه آلهة لأهوائهم السياسية، فضيّعوا مزاياه، وحيّروا أهله بالتقريع والتوسيع، والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه"؛ إنه المستبد وما له من شركاء حينما يروّج طبعته الخاصة للدين الذي يرغب ويريد، فيجعل إلهه هواه، ويكون أمره فرطا بما يلائم حال استبداده وطغيانه.