مفارقة مؤلمة، ولكنها، بكل أسف، واقعية. بينما يعرض التلفاز مشاهد تسليم المدّعي العام الإسرائيلي رئيسَ الكنيست لائحة الاتهام ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وهي تُهم إذا ما أدين المذكور بواحدة منها فقط سيذهب إلى السجن عشر سنوات على الأقل؛ ينضح تلفزيون فلسطين بأوبريت بعنوان "ملاك السلام"، مع صورة ضخمة للرئيس محمود عباس، تعلو رؤوس المشاركين في العزف والغناء والديكور، ليُضاف أوبريت "صانع الفجر الغدي"، الركيك شكلاً ومضموناً وموضوعاً، إلى أغانٍ هزيلة أخرى، يحفل بها أرشيف تلفزيون المقاطعة، من قبيل "فوضناك يا ريس" و"يا أبو مازن بدنا ياك" و"ما نرضى بديلك".
لم تغنّ إسرائيل لنتنياهو، ولم يلتف حشدٌ من الموسيقيين للعزف له، بل سيحاكَم في ثلاث قضايا بتهم الرشوة وخيانة الأمانة والغش. وبجردة حساب سريعة وموضوعية لتاريخه، لا يبدو أن الرجل يستحق مثل هذه النهاية، وقد خدم إسرائيل بأسنانه وأظافره، حتى إنه تمكّن، في سنوات وجوده رئيس حكومة تل أبيب، من تحقيق إنجازات غير مسبوقة لأي رئيس وزراء إسرائيلي آخر، ليس أقلها ضم الجولان السوري واختراق عواصم عربية وازنة، وليس آخرها إقناع الإدارة الأميركية بنقل سفارتها إلى القدس، بعد الاعتراف بالمدينة عاصمة موحدة لإسرائيل. وسِجّل الرجل حافل بانتصارات أخرى، منذ كان سفيراً في الأمم المتحدة، وقبل ذلك عندما كان ضابطاً في القوات الخاصة لجيش الاحتلال. لم يشفع هذا كله لنتنياهو الذي قد نراه قريباً في السجن، على تهم ليس من بينها تنسيق أمني مع عدو، ولا تفريط في أيّ من ثوابت المشروع الصهيوني التوسعي. وفي المقابل، يغنّي تلفزيون فلسطين فرية "ملاك السلام" للرئيس محمود عباس. ولنا أن نتساءل، أي سلامٍ هذا الذي أنجزه سيدكم "حارس الحلم الندي" للشعب الفلسطيني؟ وأي أعداء بعثر أرتالهم "ملاك السلام" بـ"الحنكة المتوقدة"، كما تقول كلمات الأوبريت الركيكة؟ مر ما يزيد عن ربع قرن منذ وقّع الرئيس محمود عباس اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 13 سبتمبر/أيلول 1993، وما زالت شواهد كل الأيام تؤكد أن "أوسلو" لم يكن سوى "شيطان خراب" كرّس واقع الاحتلال على الأرض. ربع قرن من وهْم السلام سلَّم الكيان الإسرائيلي صك الشرعية على ما يزيد عن 80% من فلسطين التاريخية، مع تمكين الاحتلال من باقي الأرض الفلسطينية بعد إفراغها من أهلها بالمصادرة والهدم والسطو وتوطين أكثر من 700 ألف مستوطن، يقطنون في أكثر من 196 مستوطنة مرخصة من قبل الحكومة الإسرائيلية، وما يزيد عن مائتي بؤرة استيطانية غير مرخصة. في نازلة سابقة لا تقل سخافة عن فرية "ملاك السلام"، كان عنوانها كتاب "رئيسنا قدوتنا"، ذكَّرنا الناسَ بعبرتين من التاريخ: الأولى عندما فشل الزعيم البريطاني، ونستون تشرشل، في الانتخابات العامة التي تلت انتصاره التاريخي على النازي في الحرب العالمية الثانية، إذ اختار الشعب إقصاءه. الواقعة الأخرى من التاريخ الإسلامي، عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القائد خالد بن الوليد عن قيادة الجيش خلال معركة اليرموك، وولّى مكانه أبا عبيدة عامر بن الجراح، مع أن خالداً لم يُهزم في أي معركة. نضيف اليوم عبرة أخرى بمناسبة واقعة "ملاك السلام" تركها لنا الزعيم الراحل، رئيس جمهورية البوسنة والهرسك، علي عزت بيغوفيتش، وقد وصل ذات يوم مرة إلى صلاة الجمعة متأخراً، وقد اعتاد الصلاة في الصفوف الأمامية، ففتح له الناس الطريق إلى أن وصل إلى الصف الأول، فاستدار إلى المصلين، وقال لهم بغضبٍ: هكذا تصنعون طواغيتكم. منذ متى يُكافأ المهزومون بالأغاني؟ ومنذ متى تعلق النياشين للراجعين من معارك الحرب والسلام بخفي حُنَيِن؟ أليس بمثل هذه الترّهات تُصنع الطواغيت؟ مثل هذه لا تليق بالشعب الفلسطيني وتضحياته، ولا تزيد للفلسطيني إلا قيد العبودية فوق قيد الاحتلال.