عيد الميلاد في
الغرب عموماً، وفي
فرنسا خصوصاً، يشغل الناس جميعاً، ويستعد الفرنسيون للمناسبة قبل وصولها بأسابيع. وكم كان لافتاً القلق الكبير، الرسمي والشعبي من تواصل الإضرابات التي تؤثر سلباً في الأعياد، بما في ذلك خسائر التجار، في الموسم، الذي يُقبل فيه المواطنون على اقتناء الهدايا والشوكولاتة، والحلويات والأطباق التي تُستَهلك. كذلك، تؤثر
الاحتجاجات في تنقلات المواطنين، لقضاء فترة
الأعياد مع ذويهم أو في مدن بعيدة، داخل فرنسا أو في الخارج، خصوصاً دول الجوار. وبما أنّ كلّ الأجواء لا تتحدث، في هذه الفترة، إلا عن الأعياد، وحيث مظاهر الأعياد من صور وأضواء تُرى أيضاً في كلّ مكان، فليس ثمة ما يجعل الجالية العربية تفلت من هذا الافتتان، بل على العكس من ذلك، بحسب ما تقول مريم العبدي، وهي تدير مخبزاً عربياً في الضاحية الباريسية: "هذه الأعياد وطابعها الاحتفالي فرصة لاندماج أكبر، للجالية العربية، وأيضاً عاملٌ مقاوِمٌ للتمييز والوصم، ودعوة للتقارب".زيّنت مريم العبدي مخبزها بأضواء وملصقات تجعلها لا تختلف عن المخابز الأخرى، كما تعرض بشكل واضح فطيرة الملوك أو "تارت الملوك"، كما يسميها بعض المخابز، وهي من عادات هذه المناسبة، التي يَحرِص عليها الفرنسيون. وتجد منافسة شرسة في الأسواق، التي تُخفّض أثمانها بشكل ينغص راحة المخابز، ثلاثة يورو، مقابل سبعة فما فوق. وهذا الجوّ المتسامح والمندمج لمريم العبدي يتقاسمه الكثيرون من العرب، ممن يعيشون في أحياء شعبية مع جنسيات غير عربية وغير إسلامية.
|
تتبادل مريم العبدي مع الزبائن عبارة "جوايو نويل" (العربي الجديد) |
ويرى الباحث الفرنسي علي بنكبوس أنّ "الجيل الأول من الهجرة، هو الذي كان يتوجس كثيراً من هذه الأعياد" وهو أمرٌ مفهومٌ، لأنّه "خارج للتوّ من صدام مع المحتل، استخدم فيها الأخير كلَّ الوسائل لتدجين الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، عسكرية وثقافية ودينية". وحتى حين وصوله إلى فرنسا للعمل، وُضِعَ في أماكن معزولة تجعل فرص انفتاحه على الآخرين قليلة: "كانوا مكدَّسين بينهم في مراكز إيواء، لا يغادرونها إلا للشغل أو للسفر إلى بلادهم أو إلى مقابرهم". ولا يمكن تصور "الثورة" التي أحدثها قرار الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان (1974-1981) بلمّ الشمل: "صحيح أنّه أراد منها دفع هؤلاء المهاجرين إلى إنفاق رواتبهم في فرنسا وتحسين عجلة الاقتصاد الفرنسي، لكنّه لم يتصور أن تجد فرنسا نفسها، بعد عقود، أمام سكان مختلفين عن النسيج السابق، يجب التعامل معهم بشكل غير مسبوق".
المهم أنّ هؤلاء المنحدرين من المهاجرين، الذين درسوا مع أقرانهم في مدارس ومعاهد الجمهورية الفرنسية، لم تُشكل لهم هذه المظاهر، وهي تكاد تكون المظاهر الدينية الوحيدة في دولة علمانية معلَنَة، أيّ صدمة. يقول رشيد بن حدّو، وهو في الرابعة والأربعين من عمره، لـ"العربي الجديد": "لا أحد تقريباً، يركّز على الجانب الديني، للاحتفال، على الرغم من أنّه مرتبط بولادة السيد المسيح، عليه السلام". ويضيف: "اقترحت شخصياً، على أبنائي شراء شجرة الأعياد، فلم يجدوا ما يستوجب ذلك، لأنّ المهم في نظرهم، هي الهدايا التي ترافق هذه المناسبة. وحين سيتحدث الأطفال في المدرسة عن الهدايا، التي تلقوها من آبائهم وأجدادهم، لن يشعروا بأنّه جرى استثناؤهم".تكشف مريم العبدي، التي اشتغلت، قبل أن تَحُطَّ بها قدماها في مخبز مهدد بالتوقف فأنعشته، طبَّاخةً في منازل كثيرين، أنّ "كثيراً من العرب، خصوصاً في البيوت التي تعرف زواجاً مختلطاً، كانوا يضعون شجرة الميلاد وكلّ الأكسسوارات المرتبطة بها". تضحك حين تتذكر أحد مشغّليها في بدايات ممارستها لمهنة الطبخ، جاك بييرو، وهو يدق عليها البيت، قبيل عيد الميلاد، ويسلّمها شجرة الميلاد، ويقول لها: "لقد فكرنا فيكِ أنا وزوجتي".يتعجب فريد الجبلي، وهو مهندس في الإلكترونيات، من المواقف التي ما زالت تحذّر من التقارب بين أفراد المجتمع الفرنسي الواحد، ويقول: "في رمضان يتقرب إلينا كثير من غير المسلمين، يهنئوننا، بل يقتسمون معنا، أحياناً، طعام الإفطار، فكيف لا نحتفل معهم بأعيادهم ونهنئهم بمقدمها؟". يضيف: "الجميع في فرنسا يحتفل بهذه الأعياد، سواء كانوا متدينين أو غير متدينين، فالعيد أصبح فرصة للتقاسم وتبادل الهدايا، وهو ما يؤكده الحديث الشريف: تهادَوا تحابّوا". يذكر حسنات تقاسم هذه اللحظات: "من حسن الحظ أنّ هذه الاحتفالات تحصل في موسم البرد، أي الوقت الذي يحتاج فيه كثيرون إلى الأخذ بأيديهم ومساعدتهم. فكثير من المشردين ومن المهاجرين يحتاجون إلى المساعدة، ولا يهمّ مصدر هذه المساعدات ولا النية في ذلك".لا تخفي مريم العبدي سعادتها وهي تتلقى عبارات الشكر والامتنان من الزبائن، وهم مختلطون، عرب وغير عرب، لأنّ الحلويات كانت لذيذة، ولأنّ "فطيرة الملوك" كانت شهية، وهي تتبادل معهم، عبارات: "جوايو نويل (ميلاد مجيد)"، وتعلق: "هؤلاء أنفسهم، خصوصاً غير المسلمين، كانوا يرددون لي، طوال شهر رمضان: بون رمضان، أي رمضان كريم".
وتجدر الإشارة إلى أنّ معظم الأئمة في مساجد فرنسا يدعون في دروسهم وخطبهم المصلّين إلى حسن الخلق مع جيرانهم، من غير المسلمين، وإلى إكرامهم، أي الفرح بما يفرحهم، وتقاسم مظاهر الحزن معهم. ويؤكد الشيخ حسن، من مسجد "روني سو- بوا"، في ضاحية باريس، أنّه "إذا كانت الجالية العربية والإسلامية تتقاسم، مع كلّ المواطنين، الحزنَ الذي يضرب بلدهم فرنسا، وكان آخره مقتل جنود فرنسيين في دولة مالي، فكيف لا تتقاسم لحظات الفرح التي توحد البلد وتقوي المعنويات؟". يشدد على أن "لا شيء، في هذا، يتعارض مع معتقدات المسلم وإيمانه". وانسجاماً مع هذا التقاسم والتضامن، الذي يستوحي الأعياد الإسلامية والفرنسية، أعلن المسجد نفسه تنظيم حملة تبدأ يوم 28 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، لجمع مساعدات للمشردين في فرنسا، تتضمن خياماً وملابس ثقيلة، وقبعات وقفازات ومأكولات خفيفة "حتى تكون هذه الأعياد أحلى وأثمر" كما يقول الشيخ حسن، وحتى "نُبعد عن أنفسنا أيّ اتهام بالانعزال، والابتعاد عن المجموعة الوطنية، ونثبت، بالملموس، أنّنا ملتحمون مع باقي مواطنينا في السراء والضراء"، كما يقول محمد زرولت، رئيس فدرالية الجمعيات المغربية في فرنسا.
|
محمد زرولت (العربي الجديد) |