في البداية، يجب التوضيح أن انتقاد ثقافة التدين هنا ليس المقصود به المسّ بالمقدس أو التشكيك فيه، وإنما نقد السياسات والممارسات الدينية التي برزت تناقضاتها قويةً في عز هذه الأزمة العالمية التي هزّت العالم بدون تمييز بين الأعراق والأديان، فقد أظهرت هذه الأزمة الفجوة الكبيرة بين الطقوس والممارسات التي تحولت إلى عاداتٍ جماعيةٍ واجتماعية شبه مقدّسة، والمعتقدات التي تبقى فردية لأن لا أحد يمكنه أن يشقّ الصدور ليعلم حقيقة ما في داخلها، وبين القِيم وهذه إنسانيةٌ مشتركةٌ يتقاسمها المتدين وغير المتدين.
لم يودِ وباء كورونا فقط بأرواح آلاف من الضحايا، وإنما زعزع يقينياتٍ كثيرة، خصوصا في عالم الطب والعلم، وزعزع معتقدات إيديولوجية كثيرة إلى درجة كما قال الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، أصبح معها لزاما علينا أن نتعلم كيف نعيش مستقبلا مع عدم اليقين. ولكن التحدي الكبير الآخر الذي طرحته مواجهة هذا الوباء هو مدى قدرة الناس على الاستجابة لقرارات حكوماتهم، وامتثالهم للقواعد الصحية التي وضعتها، خصوصا منها التي لها علاقة بالأماكن المقدسة والشعائر الدينية. ومن بين القرارات التي اتخذتها الحكومات في دول كثيرة إغلاق الأماكن الدينية من كنائس ومعابد وجوامع ومزارات، وتعليق كل الشعائر والطقوس الدينية الجماعية للحدّ من تفشي الوباء وانتشاره بين المؤمنين، قبل نقله إلى عامّة الناس. وخلفت هذه القرارات ردود فعل مختلفة بين من تقبلوا القرار، باعتباره وقاية لهم ولغيرهم، ومن حاولوا تحدّيه، مدفوعين بإيمانهم بأن الوباء ما هو سوى غضب من الله، وبالتالي فإغلاق أماكن التعبد إنما قد يزيد من شدّة الغضب عليهم. وفي النهاية، انتصر الحسّ البراغماتي عند مؤسسات دينية كثيرة كبيرة، ولدى رجال الدين المؤثرين، وتم تقديم طاعة الدولة على طاعة المعتقد اتقاء لخطر الوباء. حدث هذا في أغلب الدول، وعند كل الديانات والمذاهب والطوائف، وهذا تحول كبير سيكون له أثره الكبير، ما بعد أزمة كورونا، على مجتمعات متدينة كثيرة. وكيفما ستؤول إليه نهاية هذه الأزمة، فإنها، لا محالة، ستترك آثارها قويةً ليس فقط على معتقدات الناس، وإنما أيضا على طريقة نظرتهم إلى من كانوا يستغلون الدين، سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو ساسة عموميين، لأغراض دنيوية وسياسية. وفي المقابل، وبقدر ما زادت حالة الخوف والهلع التي خلّفها انتشار الوباء في النفوس من تقوية
إيمان كثيرين، ولجوئهم إلى الدين باعتباره المنقذ والمخلص، ارتفعت أصواتٌ تطالب بإعادة النظر ليس فقط في السياسات الدينية لحكوماتها، وإنما في النظرة إلى دور الدين داخل المجتمعات، خصوصا بعد أن تم تسييسه لخدمة مصالح سياسية لحكومات وأنظمة ومؤسسات وأحزاب ورجال دين يستمدون شرعيتهم منه، لخدمة مصالحهم السياسية أو فقط الذاتية. وقليل من الأصوات، والتي لا ينبغي الاستهانة بها، طرحت مسألة التديّن الفردي مقابل الشعائر التي تحولت إلى طقوس شكلية تُستغل لأهداف بعيدا عن الإيمان والاعتقاد الذي يبقى مسألة شخصية. ونادرا ما ظهرت آراءُ تشكك أو تقلل من أهمية الدين باعتباره مصدرا للقيم التي يشترك فيها ويتقاسمها كل أفراد المجتمع، وهذا هو الجانب العمومي في الدين الذي يجب إبرازه وتقويته، فالدين هو القيم، وجميع الديانات سواء السماوية أو غير السماوية تكاد تشترك وتتقاسم القيم نفسها. وإذا كان من فضل لهذه الجائحة، فإنها، أولا، كشفت عن وجود أزمة قيم حقيقية داخل المجتمعات التي برزت فيها تصرّفات أنانية مقيتة. وثانيا، ذكّرتنا بأننا نتقاسم جميعا، مؤمنين من جميع الديانات، وغير مؤمنين، فقراء وأغنياء، القيم الإنسانية المشتركة نفسها. لذلك عندما أراد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، التوجه إلى رجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود، لحثهم على المشاركة في مكافحة فيروس كورونا في العالم، ذكّرهم بقيم "التعاون والتضامن والإيمان" لمواجهة الوباء. أما الفيلسوف إدغار موران فاعتبر، في أحد أحدث حواراته، أن "هذا هو الوقت المناسب لإحياء مشاعرنا الإنسانية، لأننا إذا لم ننظر إلى البشرية كأسرة واحدة فلن نستطيع الضغط على من يحكموننا لكي يتصرّفوا بشكل جيد ومتجدّد".أما ثقافة التدين فهي أنماط وأشكال ممارسة الشعائر الدينية التي تحولت عند مجتمعات دينية
كثيرة، وفي ديانات كثيرة، إلى طقوس شكلية "مقدسة"، لكنها فارغة بلا جوهر، ففي التدين يتداخل التأثر والتأثير، والسلوك والعادات، وتنشأ الممارسات الخاطئة التي يسهل استغلالها لتوظيف الدين لأغراض بعيدا عن رسالته الروحية. لذلك إذا كان الدين ثابتا، فإن التدين متحول ومتغير، وهو ما يجعله قابلا للنقد والانتقاد والإصلاح، بل وحتى التغيير والتطوير.لقد أدّى انتشار الطاعون الأسود في أوروبا في القرون الوسطى إلى تغيير نظر الناس إلى الكنيسة، بسبب تخاذلها في توعيتهم في محاربته، ودعوتها لهم إلى الاستسلام له باعتباره عقابا إلهيا. وكان من نتائج ذلك الوباء أن الناس سيعيدون نظرتهم في كثير من ممارسات التدين التي كانت الكنيسة تعتبرها في صلب الدين والعقيدة، وهو ما شكّل حافزا لظهور دعوات الإصلاح من الداخل، ساهمت فيها موجة التغييرات الكبيرة التي أحدثها الوباء في مسلّمات الناس الدينية والاجتماعية والسياسية. الهدف اليوم من نقد ثقافة التدين هو استعادة البعد الجوهري في الدين الذي يقوم على القيم الكبيرة، بدلا من التركيز على الشعائر التعبدية التي كادت أن تتحول في كثير من مجتمعاتنا إلى طقوس تحجب جوهر الدين ورسالته وتغيّبهما داخل المجتمعات. لذلك لا ينبغي أن نخاف من ممارسة النقد، لأنه الشرط الأساسي لكل تغيير داخل المجتمعات، وكل تقدم ينهض بالدين، ويرفعه إلى مكانته الجوهرية في حياة الإنسان.